كيف أنجح في حفظ القرآن؟
أم عبدالرحمن بنت مصطفى بخيت
لتلاوة كتاب الله وتدبُّر معانيه لذة تشتاق النفوس لتذوقها كل حين.
وكذلك للبُعد عنه والانشغال بأمور الدنيا ألَمٌ يمزق الفؤاد ويشتت النفس.
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]، ويقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36].
والنفس تتقلب ما بين هذا الاشتياق وذلك الألم:
• فحين تنظرين لحياتك، وتتأملين تعلقها بالدنيا، تشعرين بجفاء روحك وهي بعيدة عن القرآن، وتشعرين بالضياع أمام الفتن والشبهات والشهوات.
• وحين ترتلين الآيات، وتستمدين من نورها ما يُثبِّت فؤادك، ويطفئ نيران الفتن، تجدين أن روحك تشتاق للمزيد من عبيرها، لتُفجر في قلبك ينابيع الخشية والتوبة والإنابة.
فيفيض القلب بمشاعر الإيمان، وتُسرع النفس للاستجابة لأوامر الرحمن، فلا تهزها الأمواج المتلاطمة، ولا تُطفئ نورها الرياح العاتية..
وبين هذا وذاك تشتاق النفس لحفظ كتاب الله:
• تشتاق النفس للحفظ كلما قمتِ للصلاة راغبة في المكوث بين يدي الله مرتلة لآياته، لكنك تتراجعين عن قرارك حينما تجدين رصيدك من الآيات المحفوظة قليلًا.
• تشتاق النفس للحفظ كلما رغبتِ في تدبر الآيات واستشعار معانيها؛ لتسمو روحكِ معها، لكنك تضطرين إلى الانتظار لحين تفرُّغكِ من واجباتك لتستطيعي الإمساك بقرآنك.
• تشتاق النفس للحفظ كلما جلستِ مع أبنائك لتعليمهم أمور دينهم، لكنك تعجزين عن الاستدلال بالآيات المناسبة لموضوعك.
تشتاق النفس وتشتاق.
وتحلُمُ باليوم الذي تختم فيه حفظ القرآن.
لكن حين تبدئين في تحويل ذلك الحُلْم إلى حقيقة؛ ليكون بداية تكوين علاقة عميقة مع كتاب الله عز وجل، تجدين نفسك تتشتت، وتصطدمين في طريقك بالكثير من العَقَبات التي تعُوقك عن الاستمرار في الحفظ.
ووقتها تحتارين وتتساءلين:
كيف حفِظ من سبقوني القرآنَ رغم اختلاف أعمارهم؟
كيف حفظ من سبقوني القرآن وبعضهم لا يتحدث العربية؟
كيف حفظ من سبقوني القرآن من مختلف أنحاء العالم؟
ومِن هنا تبدئين رحلة البحث عن طرق الحفظ المختلفة للقرآن؛ لعلك تجدين مِن بينها الطريقة التي تعينك على تحقيق حُلْمك ومُرادك.
ومع محاولاتك العديدة، والتنقل من طريقة لأخرى، تجدين أسئلة أخرى تتبادر إلى ذهنك، وهي:
لماذا لم أنجح حتى الآن في حفظ القرآن رغم محاولاتي الكثيرة؟
وكيف نجح كل هؤلاء في حفظ القرآن رغم اختلاف طرق الحفظ لديهم؟
وكيف استطاعوا الحصول على حفظ ثابت وراسخ، حفظ يستمر معهم مدى الحياة؟
وهنا تكون الوقفة الحقيقية، ونقطة التحوُّل في رحلتك مع القرآن.
فالحفظُ هو مشروع العمر، وهو البداية الحقيقية للحياة؛ فلا حياةَ بدون العيش مع القرآن.
وحفظ القرآن هو وسيلة لتربية النفس وتهذيبها قبل أن يكون وسيلة لتكوين علاقة عميقة تُقربك من الله عز وجل، وحتى تنجحي في حفظ القرآن، فلا بد أن تدركي بعض الأمور، وتتدربي على بعض المهارات، منها:
1- التجرُّد مِن حَوْلك وقوتك، واليقين أنه لا حول لكِ ولا قوة إلا بالله، مع إخلاص النية لله عز وجل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مَن تُسعَّر بهم النارُ يوم القيامة: ((ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه، فعرَفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار))؛ رواه مسلم [1905].
وتذكَّري أنك مهما بلغت من الذكاء وقوة الذاكرة، فلن تبلغي المرام ولن توفَّقي في حفظ أي آية إلا بالاستعانة بالله، والتذلُّل بين يديه بالدعاء..
2- للصُّحبة القرآنية أهمية كبيرة في حياة الإنسان للتقوِّي على العبادة؛ يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿ هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ [طه: 30 - 34].
فالمؤمن للمؤمن كالبنيانِ، يشُد بعضُه بعضًا، ويُعينه على الطريق..
3- رغم أهمية الصحبة القرآنية، فإنه ينبغي أن ينبُعَ الدافعُ لحفظ القرآن مِن داخلكِ أنتِ.
فصحبتُكِ القرآنية إن بدأت معكِ الحفظ، فغالبًا لن تستمر معكِ للنهاية؛ لظروف الحياة المختلفة، وبالتالي لا ينبغي لك الاعتماد عليهن كثيرًا، فتجدي نفسَكِ تنشطين حين نشاطهم، وتفتُرِين حين فتورِهم.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتقِ، ورتِّلْ كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آيةٍ تقرأ بها))؛ حسن صحيح، رواه الترمذي [2914].
فهل ستجعلين منزلتك مرهونة بقوة دفع رفيقاتك وحثهم لك؟ أم ستكون علاقتك بالقرآن علاقة خاصة وعميقة؛ فيصاحبك في قلبك في كل مكان قربة لله عز وجل؟!
4- لا بد أن تدركي أن النجاح يحتاج لمزيج من الجِد والتعب والصبر والاجتهاد؛ فالقرآن الذي نزَل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على مدار 23 عامًا لا يمكن أن يُحفَظَ في أيام، ولا أسابيع.
لذلك عليكِ بالصبر في الحفظ والمراجعة والتثبيت.
وكذلك الصبر على الاستمرار في الحفظ وإتمامه بإتقان، ومقاومة طبيعة النفس البشرية، التي تتعجل النتائج السريعة؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].