السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
-------------------------------------------
قال ابن باز رحمه الله كما في مجموع الفتاوى له: وقد أنكر اللهُ سبحانه على مَن لم يتثبَّت في الأخبار ولم يردَّها إلى أهلها.. فاحذر أيها المؤمنُ أن يَستزِلَّك الشيطانُ ويُغرِيَك بعدم التثبُّت في الأمور والأخبار؛ فتقع فيما لا تحمد عُقباه، وتندم حين لا ينفعُ الندم.
الحمدُ لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعدُ:
فإن كلَّ خبر ينشرُه الإنسانُ مما يثيرُ الفتنةَ أو الغوغاء، أو يثيرُ التسخُّط، أو يُسبِّب شتمًا أو أذيةً لأي إنسانٍ بغير وجهِ حقٍّ، أو يُنبِّهُ بعضَ الناس على بابٍ من أبواب الشرِّ كانوا عنه غافلين فلا يجوزُ نشرُه، وناشرُه آثمٌ يَحمِل إثمَ كلِّ ما تسبب به خبرُه، والله تعالى ذمَّ كلَّ ناشرٍ للأخبار التي تُزعزعُ أمنَ الناس وتثيرُ الخوفَ بقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء من الآية:83]؛ أي: أَفشَوه وأعلَنوه.
قال الزمخشري رحمه الله في بيانه: "هم ناس مِن ضعَفَةِ المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوالِ، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلَغَهم خبرٌ عن سَرَايا رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمنٍ وسلامةٍ، أو خوفٍ وخللٍ، أذاعوا به، وكانت إذاعتُهم مَفسدَةً".
قال ابن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين): "لأن السُّوقةَ وعامَّةَ الناس لا يصلحون لمثل هذه الأمور، ولا لأمور السياسة، وليس لعامةِ الناس أن يَلُوكوا ألسنَتَهم بسياسة ولاةِ الأمور، السياسةُ لها أناس.. ولو أن السياسةَ صارت تُلاكُ بين ألسُنِ عامةِ الناس، فسَدَتِ الدنيا؛ لأن العاميَّ ليس عنده علم وليس عنده عقل.. العامة ليسوا كأولي الأمرِ وأولي الرأي والمَشورة؛ فليس الكلامُ في السياسة من المجالات العامة، ومَن أراد أن تكون العامة مشاركةً لولاة الأمور في سياستها وفي رأيها وفكرها، فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا، وخرج عن هدي الصحابة".
وقال كما في (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين): "وهذا يدلُّ على أن الإنسان لا ينبغي له أن يكون مذيعًا، كلَّما سمع عن خبرِ خوفٍ أو أمنٍ أذاعَه؛ بل قد يكون من الخير أن يكتمَ هذا الخبرَ الذي حصل".
قال ابن باز رحمه الله كما في مجموع الفتاوى له: "وقد أنكر اللهُ سبحانه على مَن لم يتثبَّت في الأخبار ولم يردَّها إلى أهلها.. فاحذر أيها المؤمنُ أن يَستزِلَّك الشيطانُ ويُغرِيَك بعدم التثبُّت في الأمور والأخبار؛ فتقع فيما لا تحمد عُقباه، وتندم حين لا ينفعُ الندم".
وقد ذمَّ الله تعالى من يشيعُ أخبارَ الفواحش والفجور، ويَكشفُ سترَ المؤمنين -كما يفعلُه كثيرٌ من نَقَلةِ الأخبار مِن نشر فضائح فلان وعلَّان- بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
قال ابن رجب رحمه الله في (جامع العلوم والحكم): "مَن كان مستورًا لا يُعرفُ بشيءٍ من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوةٌ أو زلَّةٌ، فإنه لا يجوز كشفُها ولا هتكُها ولا التحدُّثُ بها؛ لأن ذلك غِيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص.. والمرادُ إشاعةُ الفاحشة على المؤمن المستَتِر فيما وقع منه، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه؛ كما في قصة الإفك".
وأكَّدَ الله عز وجل على التثبُّت من الأخبار قبلَ الحكم بها، وأمر ألا تؤخذَ الأخبار عن الفاسقين والكافرين إلا بعد التحقُّق من ثبوتها؛ فإن في نقلِ بعضِها تشويهًا لسمعةِ ناسٍ، وإضرارًا بآخرين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وفي قراءة: {فَتَثَبَّتُوا} [الحجرات:6].
قال ابن تيمية رحمه الله كما في (مجموع الفتاوى): "فأمَرَ بالتبَيُّن عند مجيء كلِّ فاسق بكل نبأ، بل مِن الأنباء ما يُنهى فيه عن التبيُّن، ومنها ما يُباحُ فيه تركُ التبيُّن، ومن الأنباء ما يتضمَّن العقوبةَ لبعض الناس".
قال ابن الأثير رحمه الله في كتابه (الشافي في شرح مسندِ الشافعي): "فأمرَ اللهُ مَن يُمضِي أمرَه على أحدٍ مِن عباده أن يكون متثبِّتًا قبل أن يُمضيَه".
قال الصنعاني رحمه الله في كتابه (التحبير): "وإذا فشا الكذبُ، وجبَ التأني في الأخبار حتى يُبحَثَ عن حال الراوي، ويتثبتُ في خبره".
ولا يكون التحقُّق من هذه الأخبارِ إلا بحصولِ اليقين والعلم الأكيد، لا بالظنون والشكوك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات من الآية:12]؛ فسوءُ الظنِّ يدعو إلى تأكيد هذا الظن؛ فيجُرُّ إلى التجسُّسِ؛ فإذا تجسَّس وتأكدَ، أفضى إلى الغِيبة والحديث عما وقفَ عليه؛ فحريٌّ بالمؤمن أن يقطعَ سيئات الظنون؛ وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء من الآية:36]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» (متفق عليه، صحيح البخاري؛ برقم: [6066]، صحيح مسلم؛ برقم: [2563]).
ونهى الله عز وجل عن الغِيبة الحاصلةِ غالبًا بسبب نقل الأخبار -كما يَتَنَدَّرون بقول فلان، ويستهزئون بالتصريح الفلاني، والمسؤول الفلاني، والرجل الفلاني- بقوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات من الآية:12].
ولا يُحدِّثُ المسلمُ إلا بما فيه الخير، ولا يتعجَّل في نشر كل ما سمع، ولا يتحدَّث بكل خبرٍ يأتيه؛ عن عليٍّ وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: "لا تكونوا عُجلًا مَذايِيعَ" (انظر: الزهد لمعافي، والزهد لوكيع)؛ أي: لا تكونوا في عجلة في نشر الأخبار السيئة وإشاعتها. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (صحيح مسلم؛ برقم: [5]).
هذا، وفي نشر الأخبار محاذيرُ أخرى كثيرة لا يَسعُ المقام لذكرها هنا، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن نشر الخبر الكاذب الذي يبلغُ الآفاقَ؛ فيُعذَّبُ به صاحبه، ويحمل وزره إلى يوم القيامة، وأمر بالسَّتر على الناس وكتم السوء، ونهى عن كل ما يُورِثُ البغضاءَ والشحناء والنِّزاع بين الناس وكلِّ ما يسببه؛ فالأَولى بالمسلم أن يتجنَّبَ نشرَ الأخبار حتى لا يكون عليه وبال، وإن أراد نشرَ خبرٍ، فلا ينشر إلا أمرَ الخير والنصح والإرشاد والتأليف بين الناس، وما يورث بينهم المحبة، ويُطَمئِنُ قلوبَهم، أو ما يُنبِّههم على ما يضرُّهم ويُحذِّرُهم من مكروه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.